التصادم الثقافي هو الهم الأول لدي المغتربين العرب في أوروبا ودول المهجر، إنه الصراع العلني أحيانا والخفي أحايين أخرى، والذي يجعل المغترب وكأن هناك قلبين في جوفه. إنها عملية الفصل الحاد بين ثقافتين، أو حضارتين تلتقيان وتتفرقان في اليوم الواحد مائة مرة. إنهما عالمان مختلفان تمام اختلاف، ولكن المغترب العربي يجعل منهما عالما واحدا، ثم لا يلبث أن يعيدهما إلى طبيعتهما إذا عرض له حادث أو أراد الفصل بينهما لهوى في نفسه أو مصلحة يبتغيها. وعملية الفصل هنا أقرب إلى حفظ البقاء منها إلى أي شخص آخر، فالمغترب العربي يرفض الدخول الكامل إلى المجتمع الأوروبي خوفا وعجزا في آن واحد.
إنه يخاف الدخول ليقينه بأنه سيصبح مواطنا من الدرجة الثانية، فهو لا يمكن أن يدّعي القدرة على ممارسة حياة الأوروبي كصاحبها تماما. هل له ماض منهم يشركهم فيه ويقص عليهم من نبأه؟ هل يستطيع إلقاء نكات تحمل الطابع الثقافي اللغوي والتاريخي والشعبي لأهل البلد؟ هل يعرف الموسيقى والأغاني والشعر والروايات فضلا عن " الحس الغوي" ولا نقول الإتقان، لأن إجادة اللغة ليست مشكلة كبيرة أو عقبة كأداء.
أما عاجزا، فلأن الطرف الآخر لن يقبله واحدا منهم حتى لو عمل لهم" عجين الفلاحة"، أي فعل مثل ما يأمرون.
إنه غريب وطنا دينا ولغة وماضيا وهيئة..بل وروحا أيضا، وهذان السببان، الخوف والعجز، يعطيان للصراع اليومي قوة دفع كبيرة، فلا ترى المغترب حيال نفسه والمجتمع إلا على حالة من اثنتين: إما لاجئ شبه دائم لماضيه وثقافته وأبناء وطنه في المهجر، وإما محاولا اختراق الحاجز الكبير بينه وبين هؤلاء القوم.أما اللجوء الدائم إلى الماضي وإلى أبناء الوطن فيأخذ أشكالا عدة أهمها اللقاءات اليومية والأحاديث الهاتفية الطويلة، والتي قد تحمل في ثناياها نوعا من التصادمات التي قد لا تقل حدة عن التصادمات القاسية مع أبناء البلد المضيف، ولكنها على كل حال في دائرة الأمان لأن أصحابها يملكون وسائل الدفاع اللغوية والفكرية والمنطقية التي تؤهلهم لخوض الصراع من منطلق " المواطنة الأولى" التي يتساوى فيها المثقف والجاهل والأعمى والبصير، ويبدأ المواطنون من "الدرجة الثانية" إعادة خلق مجتمع صغير يحمل الثقافة الثالثة!!!
إنه التجمع العربي الصغير للمغتربين الذي يذكرك ببلدك والبلد المضيف في نفس الوقت.
وفي هذا التجمع يمارس المغترب العربي فكرة( الأخلاق الثالثة)، أي التي تحمل ثقافة موطنه الأصلي وثقافة البلد المضيف وتصنع منها هذا الخليط العجيب الذي لا تعرف له طعما أو لونا.
هنا مثلا يخلف معك المغترب العربي موعدا دون أدنى شعور بالذنب، ولكنه يؤكد لابن البلد الأوروبي على التزامه بالموعد المحدد ولو زلزلت الأرض زلزالها. وهنا يحدثك عن الأخلاق الحميدة وكيفية الإصلاح في بلده( وهو صادق كل الصدق فعلا)، ولكنه يتجه فور هذا الحديث ليقضي الليل بطوله في فراش فتاة التقطها من على باب ديسكوتيك في المدينة.
إنه يستمع إلى أغنية" وطني وصباي وأحلامي"، ثم يتثنى مع تشنجات مايكل جاكسون، وهو يشاهد فيلما إباحيا، ولكنه يستأجر لأسرته العربية ( إن كانت معه في المهجر) فيلما يخلو ولو من لمسة أو قبلة.
إنه يعيش الحرام والحلال معا ويخلط الأبيض بالأسود، ويلصق الماضي بالمستقبل المجهول، ويجعل من الكفر والإيمان توأمين، ومن الشرق والغرب صديقين حميمين ثم لا يلبث أن يفصل بينهما إذا تعرض لخطر نفسي أو استيقظ ضمير الثقافة الأولى في مواجهة الواقع.
ثم نأتي إلى محاولة اختراق الحاجز الكبير الذي يفصل بينه وبين أبناء البلد المضيف، وهو حاجز أطول من سور الصين العظيم، ويحمل في طياته جميع التناقضات بين الحضارتين، أو الثقافتين.
يخطئ من يظن أنه تمكن من القفز فوق الحاجز وأضحى واحدا منهم. إن الوطن الأول بكل ما فيه يطارد المغترب العربي ليل نهار، فلا منفذ ولا مخرج له من هذا المأزق إلا مزيد من الارتباط. إنه الحاجز الذي لا يمكن القفز فوقه، وهو ملامح الوجه، واللغة واللون، والابتسامة والدموع والأفراح والأحزان وطرق تناول الطعام والأحاديث والاهتمامات الوطنية والسياسية والدين والفكر والعاطفة والحب والجنس وتذوق الموسيقى والإيمان بالغيب وتربية الأولاد ومعاملة الزوجة و.....ومئات، بل آلاف من هذه الاختلافات التي تكون الحاجز الضخم، وتلعب العلاقات العاطفية، التي تختلف عن علاقات المغترب العربي في موطنه الأصلي، الدور الأكبر في تخفيف حدة الغربة، بل والإيحاء لصاحبها بأنه أصبح مواطنا من الدرجة الأولى تجري خلفه الفتيات الحسان، وهو" السيد" في الفراش. وكأن الطيب الصالح قد طرح هذه القضية في " موسم الهجرة إلى الشمال" وهو الانتقام العربي من أوروبا في الفراش. إنه الإحساس بالقوة في مواجهة مشاعر متناقضة من الإحباط والكبت والعجز وغياب الضمير على الرغم من ظن صاحبها أنه في حالة غزو. لكنه يعرف أيضا أنه السيد عندما يكون قادرا على العطاء، ولم يستهلك شبابه بعد. ومع فتاة جميلة وهو شاب ولو كان لا يعرف من لغة أهل البلد المضيف غير جملتين أو ثلاث، فإنه يسير ثابت الخطوة، منتفخ الصدر ويظن أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا، وعندما يتقدم به العمر، ويكتشف أن ليس له أصدقاء من الفتيات أو من العائلات، ويزهد في الجنس ـ رغبة منه أو عنه ـ فسيكتشف أنه لم يكن في يوم من الأيام مواطنا من الدرجة الأولى، ولكنه كان كالكماليات التي تجلب المتعة، والاستغناء عنها أمر سهل وميسور، ويكبر الحاجز وتزداد وحشة الغربة، وتمتد العزلة إلى الفكر والنفس والروح، ولا يعود المغترب واثقا من ماضيه أو حاضره، وتزداد " الثقافة الثالثة" وضوحا. إنه غريب في وطنه وغريب في المهجر.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير طائر الشمال
أوسلو النرويج